أهمية استدعاء السفراء في المشهد الدبلوماسي

,

في ظل تزايد أعداد القتلى التي تجاوزت بالفعل 11 ألفًا من الفلسطينيين و1200 من الإسرائيليين، تتلقى الدبلوماسية صفعة قوية خلال الحرب بين حماس وإسرائيل. حيث كانت إسرائيل أول من بادر بهذا الفعل باستدعائها سفيرها لدى تركيا. وأعقبتها في ذلك بوليفيا التي قطعت هي الأخرى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، كما سارت على تلك الخطى تشيلي وكولومبيا والأردن والبحرين، بسحب كل منها مبعوثيها لدى إسرائيل.

ويبقى من الصعب التنبؤ إلى أين ستنتهي تلك الأزمة الدبلوماسية والسياسية، تمامًا كما هو الحال مع الحرب نفسها.

ثمة أشكال مختلفة من “الاستدعاء” الدبلوماسي؛ بداية من الاستدعاء المؤقت للتشاور، وصولاً إلى القطع التام للعلاقات الدبلوماسية وإعلان الدبلوماسيين “أشخاصًا غير مرغوب فيهم”. ولكن بغض النظر عن مدى شدة الإجراء، فهو إجراء هدام في العادة؛ حيث يمثل التواصل عنصرًا جوهريًا في الأوساط الدبلوماسية لحل النزاعات وتسيير المصالح القومية والعالمية، فكيف يسهم قطع سبيل التعامل المباشر في تحقيق أهداف دبلوماسية؟

لطالما احترفت روسيا والولايات المتحدة هذه اللعبة بجميع صورها. فقد تبادل البلدان استدعاء الدبلوماسيين مرات عديدة على مدار عقود من تناحرهما. وكانت آخر تلك المرات الشهر الماضي في واقعة ثأرية حدثت ضمن سلسلة من المناوشات على إثر الحرب الروسية الأوكرانية.

كذلك انخرطت الهند وباكستان في مثل تلك الإجراءات على مدار العقود السبعة الماضية، ففي أكتوبر الماضي طلبت نيودلهي من أوتاوا استدعاء 41 من دبلوماسييها بعد أن اتهمت كندا مسؤولين هنديين بتورطهم في عملية اغتيال وقعت على الأراضي الكندية.

وها هي الصين تستخدم الإجراء الدبلوماسي نفسه في الدفاع عن سياستها بشأن تايوان. حيث يذكر أن ماو تسي تونغ عندما شن الثورة الثقافية عام 1966، استُدعي نحو 40 دبلوماسيًا صينيًا على مدار عقد من الزمان، باستثناء السفير الصيني لدى مصر. وقد حدث استدعاء جماعي آخر عام 1989 في أعقاب مظاهرات ساحة تيانانمن. ولا شك في أن تصاعد حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين سيؤدي إلى مزيد من الاستدعاءات المتبادلة في المستقبل.

لا يقتصر اتخاذ تلك الإجراءات على الدول المعارضة فكريًا لبعضها بعضًا فقط. بل إن حتى الدول المتحالفة تنخرط في هذا المشهد العبثي. فقد استدعت فرنسا سفيريها لدى الولايات المتحدة وأستراليا عام 2021 واصفة سلوك البلدَين بأنه “أمر ليس من المقبول وقوعه بين الحلفاء والشركاء“. وكان هذا بمنزلة احتجاج على قرار واشنطن بإمداد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، ما يضرب باتفاقية باريس الدفاعية مع كانبيرا عرض الحائط. وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا التي يُستدعى فيها السفير الفرنسي إلى بلاده.

ثمة أمثلة أخرى على ذلك في الشرق الأوسط؛ من بينها سحب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين سفرائها من قطر عام 2014؛ احتجاجًا على تدخل الدوحة في الشؤون الداخلية لتلك البلاد. كذلك قطعت تلك البلاد -بعد أن انضمت إليها مصر- علاقاتها مجددًا مع قطر عام 2017 بزعم “تمويل الإرهابيين واحتضانهم وإيوائهم”. وقد لحقت الكويت ببعض جيرانها في المنطقة في سحب سفرائها من لبنان عام 2021، إثر تعليقات أدلى بها أحد الوزراء اللبنانيين ضد الرياض.

وعلى صعيد مختلف تمامًا، استدعت نيجريا جميع سفرائها في أنحاء العالم خلال شهر سبتمبر 2023 بهدف إصلاح أوضاعها الدبلوماسية وضمان تميز جميع هيئاتها الدبلوماسية “بالكفاءة والجودة ذات المستوى العالمي“.

في ضوء تلك الظاهرة العالمية، ما الغرض الذي يسهم استدعاء السفراء في تحقيقه؟ وهل يهدف ذلك الإجراء من خلال تغيير المسار الدبلوماسي أو إعادة تأسيس العلاقات إلى تحقيق نتائج أكثر نفعًا؟

هل ثمة أي توجيهات في هذا الصدد ذُكرت في المرجع الأساسي لكل القواعد الدبلوماسية؟

من المؤسف أن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 -وهي معاهدة دولية تضع الإطار الهيكلي للشؤون الدبلوماسية بين الدول- لم تذكر سوى القليل في هذا الشأن.

تنص المادة 9 من الاتفاقية على أن من الممكن إنهاء دور الدبلوماسي في ظل عدة ظروف: أولها أن تقوم الدولة المعتمدة بإبلاغ الدولة المعتمد لديها بالاستدعاء، وثانيها أن تخطر الدولة المعتمد لديها نظيرتها بعدم قبولها دبلوماسي بعينه.

كذلك يمكن إعلان الدبلوماسي “شخصًا غير مرغوب فيه” بشرط ألا يكون قد وصل سفير جديد إلى أراضي الدولة المعتمد لديها بعد. وعلى أي حال، تشير الاتفاقية إلى أن ترحيب البلدين أمر في غاية الأهمية لتأسيس العلاقات الدبلوماسية واستمرارها.

أما المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة فتعترف بإجراء قطع العلاقات الدبلوماسية بوصفه وسيلة للضغط الدولي، ويكون وفق تقدير مجلس الأمن. إلا أن التداعيات السياسية لهذا الإجراء محدودة من الناحية النظرية، عدا أن وجود علاقات دبلوماسية أو قنصلية أمر لا غنى عنه لتطبيق تلك المعاهدات في حد ذاتها.

لاستدعاء الدبلوماسيين أهمية إستراتيجية من دون شك. وهذا لا يحدث لكون الأشخاص القائمين على العلاقات الدبلوماسية “أشخاصًا غير مرغوب فيهم” في حد أنفسهم، بل يعزى إلى توتر العلاقات بين الحكومات؛ حيث إن قطع القناة الأهم والأكثر مباشرة للتواصل الدبلوماسي يمثل إعرابًا عن شجب واضح.

ينبغي أن يمثل الاستدعاء بيانًا سياسيًا خالصًا يُستخدم لردع الأفعال غير المقبولة سياسيًا في دولة أخرى أو لتقويض صورة زعمائها أو حكومتها في أعين المجتمع الدولي.

وفي حالات أخرى يكون سحب الدبلوماسيين مجرد احتجاج قديم الطابع على سياسة الدولة أو خطابها الذي يضر بمصالح الدولة الأخرى.

وأيًا كان السبب في ذلك الاستدعاء، فهو رد فعل قوي ودليل على التدهور الحاد في العلاقات الدبلوماسية الذي قد يكون له تداعيات سلبية على العلاقات الاقتصادية أيضًا.

وستستمر هذه القيمة النفعية غير المكلفة لقطع العلاقات مؤقتًا في التشجيع على إجراء مزيد من الاستدعاءات للدبلوماسيين. وبينما يتراوح رد الفعل عادة بين الاستياء وعدم الاكتراث، فثمة دائمًا مساحة لإعادة العلاقات إلى مسارها سواء بتصحيح المسألة محل الخلاف أم لا.

ولكن تكمن القضية الكبرى في أنه على الرغم من قدرة الوقت على إصلاح العلاقات الدبلوماسية، فإنه لا يسهم بالكثير في إيقاف الحروب أو حفظ الأرواح الغالية. وكما ذكر تشارلز دبليو فريمان السفير السابق للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية أنه بدلاً من استدعاء الدبلوماسيين يجب إمدادهم بالصلاحيات لضمان قيام عملهم “بتمييز حقبة من الحوار السياسي قبل اندلاع للحرب… والتمكن من إنهاء الحرب [و]العمل على إرساء السلام وتعزيزه والحفاظ عليه“.

 

الدكتور نارايانابا جاناردهانا هو مدير قسم البحث والتحليل في أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبوظبي، وزميل غير مقيم لدى معهد دول الخليج العربية في واشنطن.

إريك كانال فورجيس ألتر هو أستاذ القانون الدولي والدبلوماسية في أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبوظبي وعميدها أيضًا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: