الذكاء الاصطناعي هو ما يقرر الآن مَن يموت ومَن يبقى على قيد الحياة

لنبدأ حديثنا بتلك الحقيقة اللاذعة: لقد فقدنا السيطرة كليًا على الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر ينبغي ألا يفاجئنا كثيرًا، لا سيما لأننا لم يكن لدينا أي سيطرة عليه تقريبًا من قبل. لقد أثارت الضجة التي حدثت في OpenAI إثر الخلع المفاجئ لرئيسها التنفيذي سام ألتمان أسئلة تتعلق بالمساءلة داخل تلك الشركة التي تُعَد إحدى شركات الذكاء الاصطناعي الأقوى في العالم. وحتى قبل حدوث تلك الأزمة داخل مجلس إدارتها، لم يكن لدينا سوى فهم محدود عن كيفية إنشاء تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخداماتها.

يجد مشرعو القوانين في أنحاء العالم صعوبة بالغة في مواكبة سرعة ابتكارات الذكاء الاصطناعي؛ ولذا لا يستطيعون سن تشريعات أساسية لمراقبتها وتنظيمها. وقد زاد ما وقع من صراع بين إسرائيل وحماس في غزة هذا الأمر تعقيدًا. فما نشهده اليوم هو استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لتقرير مصائر الفلسطينيين في غزة أيهم يموت وأيهم يعيش، ونتائج ذلك مروعة كما يرى الجميع.

في تحقيق موسع أجرته المجلة الإسرائيلية ‎+972 Magazine تحدث الصحفي يوفال أبراهام إلى عديد من المسؤولين السابقين والحاليين عن برنامج حربي متطور مدعوم بالذكاء الاصطناعي يستخدمه الجيش الإسرائيلي يسمى “Gospel”. وذكر المسؤولون أن برنامج Gospel يقترح أهدافًا محددة بالذكاء الاصطناعي من خلال “الاستقصاء السريع والتلقائي للمعلومات الاستخباراتية”. وتلك الأهداف المقترحة تجري مطابقتها بالنقاط التي يتعرف عليها الجندي البشري. ويعتمد النظام على مصفوفة من نقاط البيانات وسجلات متباينة من التحديدات الخاطئة مثل تقنية التعرف على الوجوه.

وتتمثل النتيجة في تحديد أهداف “عسكرية” في غزة بوتيرة مذهلة. يُذكر أن بطء تحركات الجيش في العمليات الإسرائيلية السابقة كان يعزى إلى قلة الأهداف؛ إذ يستغرق الجندي البشري وقتًا في التعرف عليها وتحديد حجم الخسائر المحتملة من المدنيين. ولكن مع Gospel تزداد سرعة هذه العملية وتتفاقم معها آثارها الفادحة.

والآن بفضل هذا البرنامج الحربي لا تكاد المقاتلات الإسرائيلية تلاحق على ضرب هذا العدد الكبير من الأهداف التي توفرها تلك الأنظمة. وهذا التصاعد الهائل في أعداد القتلى على مدار ستة أسابيع مضت من القتال يعرب عن الطبيعة الدامية لهذه التقنية الجديدة في الحروب. وذكر مسؤولون من غزة أن أكثر من 17 ألف شخص قد لقوا مصرعهم جراء تلك الحرب من بينهم 6 آلاف طفل على الأقل. وإذا استعرضنا بعض التقارير التي وردت في هذا الصدد سنجد الصحفي الأمريكي نيكولاس كريستوف يذكر أن “امرأة أو طفلاً يقتلان كل 7 دقائق تقريبًا في المتوسط على مدار الساعة منذ بدء الحرب في غزة”.

أما ريتشارد مويز الباحث ورئيس مؤسسة Article 36، وهي مجموعة تدشن حملات للحد من أضرار الأسلحة فيذكر في تصريحه للجارديان: “لننظر إلى المشاهد الحقيقية في أرجاء غزة؛ إن ما نراه أمام أعيننا هو منطقة عمرانية قد استوت بالأرض قصفًا بالأسلحة المتفجرة؛ لذا فإن ادعاء التزام الدقة وتضييق نطاق استعمال القوة ادعاء لا تؤيده الحقائق”.

تراقب الجيوش المجهزة بإمكانات مماثلة من الذكاء الاصطناعي في أنحاء العالم الاعتداء الإسرائيلي على غزة مراقبة من كثب. ولا شك أن الدروس المستفادة مما يحدث في غزة ستسهم في تنقيح منصات الذكاء الاصطناعي الأخرى لاستخدامها في الصراعات المستقبلية. لقد بات كل شيء محتملاً اليوم، ولا يخفى أن الحرب الآلية في المستقبل ستعتمد على برامج حوسبية، وتلك هي ما سيقرر مَن سيموت ومَن سيبقى على قيد الحياة.

في خضم استمرار القصف الإسرائيلي على غزة بالصواريخ الموجهة بالذكاء الاصطناعي، تحتاج الحكومات والجهات التنظيمية على مستوى العالم إلى مَن يساعدها على اللحاق بركب ابتكارات الذكاء الاصطناعي التي تنتجها الشركات الخاصة؛ إذ يتضح أن مشرعي القوانين والمنظمين ليس بإمكانهم مواكبة تلك البرامج الجديدة فضلاً عن البرامج التي يجري تطويرها.

تشير صحيفة نيويورك تايمز إلى أن “الهوة تتسع بسبب نقص المعرفة بالذكاء الاصطناعي في الحكومات والأنظمة البيروقراطية المعقدة، هذا إلى جانب مخاوف من أن تتسبب كثرة القواعد المفروضة في الحد من فوائد التكنولوجيا دون دراية”. والنتيجة المترتبة على ذلك هي تمكُّن شركات الذكاء الاصطناعي من تطوير تقنياتها مع خضوعها للقليل من المراقبة أو حتى دون خضوعها لشيء منها. وهذا الوضع مزرٍ للغاية؛ فنحن ليس لدينا علم حتى بما تعمل على تطويره تلك الشركات.

لنأخذ على سبيل المثال ما شهدته إدارة OpenAI من فوضى عارمة، وهي الشركة المطورة لمنصة الذكاء الاصطناعي الشهيرة ChatGPT. فعندما أطيح بالرئيس التنفيذي سام ألتمان إطاحة غير متوقعة بدأت بعض الشائعات في الانتشار على الإنترنت عن تقارير غير مؤكدة بأن OpenAI قد طورت تقنية سرية وقوية للذكاء الاصطناعي من شأنها تغيير وجه العالم على نحو غير مسبوق. وقد أسفر ما حدث من خلاف داخلي على استخدام تلك التقنية عن أزمة في القيادة داخل الشركة.

ربما لن نعرف أبدًا ما إذا كانت تلك الشائعات حقيقية أم لا، ولكن بالنظر إلى النحو الذي ينتهجه الذكاء الاصطناعي وحقيقة أننا لا يمكننا الاطلاع على ما تقوم به OpenAI، فتلك الشائعات تبدو منطقية. فعادةً لا يحصل العامة ومشرعو القوانين على إجابة مباشرة عن حدود إمكانات منصة ذكاء اصطناعي فائقة القدرة مثل التي تطورها OpenAI، وهنا تكمن هي المشكلة.

سيمثل برنامج Gospel الإسرائيلي والتخبط الذي يحدث في OpenAI نقطة فارقة في عالم الذكاء الاصطناعي. فقد حان الوقت لتجاوز تلك الأحاديث الفارغة التي تزعم بأن الذكاء الاصطناعي سيمنحنا عالمًا جديدًا وجريئًا. نعم، قد يساعد الذكاء الاصطناعي البشرية على تحقيق أهداف جديدة، لكنه لن يصبح قوة لفعل الخير أبدًا إذا ما تم تطويره في الخفاء واستُخدم أداةً للقتل في ساحات الحرب. ونظرًا إلى عدم قدرة الجهات التنظيمية ومشرعي القوانين على مسايرة وتيرة التطور التكنولوجي فهم لا يملكون الأدوات التي تمكِّنهم من مراقبتها مراقبة سليمة.

بينما تراقب حكومات الدول العظمى في أنحاء العالم إسرائيل وهي تختبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي على الفلسطينيين، لا يسعنا أن نضمر آمالاً كاذبة بأن هذه التكنولوجيا ستُستخدم لصالح الخير فحسب. وفي ظل إخفاق الجهات التنظيمية في فرض القيود على التكنولوجيا، نأمل أن تكون المصالح الضيقة للرأسمالية الاستهلاكية بمنزلة المتحكم في مدى الانتشار الفعلي للذكاء الاصطناعي وتغيير معالم المجتمع. قد يبدو هذا أملاً واهيًا، لكنه كل ما تبقى لدينا في هذه المرحلة.

 

جوزيف دانا، كاتب مقيم في جنوب إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وقد عمل مراسلاً من القدس ورام الله والقاهرة وإسطنبول وأبوظبي. كما أنه قد شغل في السابق منصب رئيس تحرير حركة emerge8، وهي مشروع إعلامي كائن في أبوظبي لاستطلاع التغيرات الطارئة على الأسواق الناشئة. تويتر: ‎@ibnezra

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: