زيارة البابا إلى العراق تُعيد إحياء الشعور بالفخر

الين ليبسون

AFP Photo: Vatican Media

كانت المشاهد التي أتت من العراق لزيارة البابا التي استمرت 4 أيام بمثابة حدث غير عادي، فقد أعاد العراقيون ترميم الكنائس التي تعرّضت للتدنيس والتدمير خلال فترة احتلال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لأجزاء من البلاد، ووقف المواطنون في الشوارع يلوحون بالأعلام العراقية لتحية البابا، وفرح القادة العراقيون باستقبالهم البابا في أول رحلاته منذ ظهور جائحة كورونا (كوفيد-19)، وكان الأمر بمثابة هدنة نادرة الحدوث توقّف فيها العنف بجميع أشكاله؛ والتحريض السياسي الذي كان بمثابة علامة مميزة للاخبار القادمة من تلك الدولة المحورية على مدار العقدين الماضيين.

وحملت لافتات الترحيب بالبابا عبارات مثل: “مرحبًا بك في بلاد ما بين النهرين”؛ في إشارة إلى أن العراق ليس مجرد دولة عصرية قامت بتأسيسها القوى الاستعمارية في العام 1932، بل إنها الحضارة العظيمة التي قامت بين نهريّ دجلة والفرات، مسقط رأس النبي إبراهيم عليه السلام المعروف أنه أب للديانات الثلاثة التي تدعو إلى التوحيد؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد شهد العراق أول منظومة للكتابة والنقش على الألواح منذ ستة آلاف عام، كما شهد العديد من الأمور التاريخية التي حدثت للمرة الأولى مثل حكم المدن ومبادئ القانون والرياضيات والعلوم.

وحينما نتحدث عن الدين في العراق سيأتي على بال الكثيرين الانقسام الطائفي الذي أصاب العالم الإسلامي والصراع بين الشيعة والسُنّة، وأعمال العنف التي اندلعت بين الطوائف في أعقاب سقوط صدام حسين، واستمرت الطائفية في تشكيل الجوانب السياسية والثقافية للعراق، وبدأت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران والفصائل السياسية العراقية في الإجهاز على السُنّة والأقليات الأخرى على مستوى البلاد، وكانت ردود أفعال المتطرفين من السُنّة تتسم بالمِثل في بعض الأحيان.

لكن العراق كان واحدًا من أكثر الدول التي تشهد تنوعًا دينيًا على مستوى الشرق الأوسط حتى بداية القرن الحالي، وتشير بعض التقديرات إلى أنه حتى اندلاع الفوضى الناتجة عن الغزو الأمريكي من أجل الإطاحة بصدام حسين؛ كان عدد المسيحيين في العراق يتراوح بين المليون والمليون ونصف نسمة، وهذا العدد يمثل نسبة 6% من مجموع سكان العراق، وهو يمثل نصف نسبة 12% التي كان يشكلها المسيحيون في العام 1948، واليوم فإن عدد المسيحيين في العراق لا يتجاوز نصف مليون نسمة، غالبيتهم يتبعون سبعة مذاهب سريانية مختلفة، بالإضافة إلى أتباع مذاهب الأرمن والرومان الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس، وهؤلاء يمثلون اليوم ما يزيد قليلًا على 1% من مجموع تعداد العراق، وقد غادر أكثر من نصف تعداد مسيحيي العراق البلاد على مدار العقدين الماضيين، ومُعظم المسيحيين الذين اختاروا البقاء في العراق يعيشون في المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد شمالي البلاد، وهذا يعني أن العديد منهم تم تهجيرهم من مناطق أخرى داخل العراق، وأن هؤلاء هربوا من المدن التي تقطنها أغلبية عربية في الجنوب، وقد عادت القليل من العائلات إلى الموصل خارج منطقة سيطرة الأكراد، وذلك عقب هرب هؤلاء من تنظيم داعش الذي سيطر على المدينة في العام 2014.

والواقع أن هناك عدة أهداف لزيارة البابا إلى العراق، فهو يعمل على تطمين المسيحيين الذين اختاروا البقاء، وإظهار الدعم بصورة عامة للأقليات داخل المجتمع العراقي، وقد تواصل البابا مع القادة المسلمين لإظهار التزامه بالحوار بين الأديان، وقد جاء لقائه مع الأب الروحي للشيعة المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني ليصبح بمثابة أهم الأحداث التي ستبقى في الذاكرة، لكن الهدية الكبرى التي قدمها البابا تمثّلت في مساعدة الساسة على إعادة صياغة الرسائل الموجهة إلى الشعب العراقي.

وقد ألقى الرئيس برهم صالح خطبة مؤثرة موجهة إلى البابا والشعب العراقي، حيث نجحت في الموازنة بين الألم والصدمة التي مرت بها البلاد، والتي كانت لها أبعادًا دينية أيضًا، وإلهام العراقيين من أجل استعادة الشعور بالفخر بماضيهم وصولًا إلى مستقبل أفضل، وعمد برهم صالح إلى تذكير العراقيين بتجاربهم الطويلة في التسامح والتعددية الثقافية، والجنود المسلمين والمواطنين الذين عملوا على حماية الكنائس المسيحية حين تعرّضت لتهديدات باستخدام العنف من قِبل المتطرفين، وعملية إعادة الصليب إلى كنيسة الموصل بعد أن قام تنظيم داعش بتدنيسها، وقد وصف صالح المسيحيين بأنهم “ملح تلك الأرض وسكانها الأصليين، وأنهم يمثلون التكامل من أجل بناء المجتمع العراقي”، وعبّر عن أمله في عودة المهاجرين واللاجئين المسيحيين، وذلك من أجل مداواة جراح العراق ونسيان المآسي التي شهدتها البلاد في السابق، ودعا صالح جميع العراقيين إلى نبذ التطرف الذي يُمارس باسم الدين.

وصالح الذي أعرفه منذ كان ممثلًا للاتحاد الوطني الكردستاني في تسعينات القرن الماضي؛ لطالما كان شخصية إصلاحية تتميّز بنفاذ البصيرة، ودائمًا ما كان ينظر إلى المستقبل ويحلم بدولة عراقية أكثر حداثة، وكان ثمن هذا الأمر هو عدم توافق برهم صالح مع منظومة سياسية لا زالت تعمل بالتركيز على النفعية قصيرة الأجل وتعاني من انتشار المحاباة والفساد، وقد ظهر هذا الأمر جليًا حين كان يشغل صالح منصب رئيس وزراء إقليم كردستان العراق بين عاميّ 2009 – 2012، وحين كان ممثلًا لأكثر الأحزاب التقدمية بين أكبر حزبين كرديين، وكمرشح لمنصب الرئيس في العام 2018.

والحقيقة أن منصب الرئاسة ليس المنصب الاكثر نفوذًا في العراق، لكن تفاؤل وحماس برهم صالح بمستقبل العراق من الممكن أن يساعد على انتشال العراقيين من حالة الإحباط والتشكيك في الديمقراطية، تلك الحالة التي سيطرت على العراقيين بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، ولم يكن صالح استثناء من الاحتجاجات المستمرة على مستوى العراق منذ أكتوبر 2019 بسبب فشل حكومة بغداد، وقد أعرب الكثير من شباب العراق عن رغبتهم في الإطاحة بالنظام بصورة تامة والبدء من جديد.

وقد كانت زيارة البابا بمثابة فرصة استثنائية للتدبُر وإعادة التواصل مع التاريخ والهوية العراقية، وقد اعترف الرئيس صالح بأن العراقيين “يستحقون أكثر مما في أيديهم اليوم”، وسوف يعمل العراق مع الفاتيكان على إطلاق مبادرات جديدة بين الأديان ستقوم بالتركيز على إسهامات العراق في الإرث العالمي.

وهذا التركيز على التسامح الديني والعمل الإنساني من أجل دعم المجتمع العراقي – المسيحيين واليزيديين على وجه الخصوص – لن يعُد بمثابة حل للمشكلات العسيرة التي تواجه العراق، لكنه يعُد بمثابة هدنة أعقبت سنوات من الصراع بغرض توفير الأمن والرخاء لبلد كان فريسة للديكتاتورية والغزو الأمريكي والحرب الأهلية والعنف الطائفي، وكانت تلك الأمور بمثابة عبئ ثقيل على كاهل العراقيين، حيث تم تخفيف هذا العبء قليلًا هذا الأسبوع عبر سحر التواصل بين الحضارات.

 

إيلين ليبسون، شغلت سابقًا منصب نائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية، وتشغل حاليًا منصب مدير برنامج الأمن الدولي في كلية سكار للعلوم السياسية والحكومية بجامعة جورج ماسون في ولاية فرجينيا، كما شغلت سابقًا منصب الرئيس والمدير التنفيذي لمركز ستيمسون في واشنطن.