
وهكذا، عادت الشراكة المصغرة إلى خشبة المسرح السياسي، وهو المفهوم السياسي المرتبط بثنائية الأطراف (الشراكة الثنائية)
وهي الشراكة التي تجمع بين دولتين، و(تعددية الأطراف) وهي الشراكة الرسمية الشاسعة مثل ما نراه مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويعد ظهور وانتشار هذا المفهوم شيء مثير للدهشة خاصة في عصر نشهد فيه حرب عظيمة ودموية ووحشية، ولكن يمكن فهم هذه الظاهرة على خلفية تراجع الولايات المتحدة وانسحابها من المشهد السياسي.
والشراكة المصغرة هي مجرد مصطلح تقني للدول الصغيرة ومجموعات البلدان التي تعمل معا على جدول أعمال محددة أو مجموعة من التحديات، غالبا بشكل غير رسمي، وبخلاف العمل من خلال بيروقراطيات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحتى في الدول الكبيرة مثل ألمانيا أو الولايات المتحدة، يمكن أن تكون هذه الاتفاقيات الصغيرة أكثر ذكاء وأكثر تركيزا.
ويشهد هذا المفهوم السياسي ازدهارا في بقاع عديدة من العالم، ففي الشرق الأوسط، تعمل الدول الصغيرة الغنية مثل الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل على مشاريع الطاقة الشمسية في الأردن ومشاريع الأمن الغذائي في الهند.
وفي أمريكا اللاتينية، تسعى أربعة بلدان وهي المكسيك والأرجنتين وبوليفيا وشيلي، إلى إنشاء اتحاد لمادة اليثيوم لحماية إنتاجها وحماية تصنيع المعدن، وهو معدن ذو قيمة للتقنيات الجديدة.
ولم تشهد أي منطقة محاولات مكرسة نحو الشراكة المصغرة أكثر من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث دفعت عدوانية الصين المتزايدة في المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي الدول الآسيوية الأصغر إلى تحالفات ذات ميزات خاصة. حتى (أوكوس) وهي اتفاقية أمنية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، و (كواد) وهو “حوار أمني” بين الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا تسمى أحيانا الشراكة المصغرة. (وأميل إلى أن أكون أكثر تشككا في ذلك، لأن كلاهما يشمل الولايات المتحدة، لكن الأمر صحيح نظريا: ولمواجهة الصين، قد يكون من الأفضل استخدام تحالفات أصغر لكي لا تثير ردا عاصفا).
وبالنسبة لأولئك المهتمين بالشراكة المصغرة، فهم يرون مزايا خوض التجارب الدبلوماسية، حيث يمكن لدولة صغيرة أن تسعى إلى إقامة تحالفات مع دول أصغر أخرى، دون تقويض علاقتها الأساسية مع القوى الكبرى. وميزة أخرى هي حرية الحركة السياسية، فغالبا ما تكون الدولة الأصغر محصورة بين الدول الكبرى أو متحالفة بشكل وثيق مع إحداها، وعليها أن تحذر من أن علاقاتها الجديدة لا تؤثر على تحالفها السابق. و(يصدق ذلك القول تحديدا في آسيا والمحيط الهادئ.) حيث تشكل الشراكة المصغرة حلا، لأن عادة ما تكون شروط المشاركة وفق نطاق ضيق، والأهم من ذلك أنها خيارية.
ولا تعكس الشراكة المصغرة وضع النظام العالمي الحالي، بل على العكس من ذلك، فإنها تظهر فك الارتباط المتزايد عن الهياكل السياسية الحالية للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلا عن حلفاء القوى العظمى التقليديين مثل الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين.
ولا يوجد مثل يوضح هذا التوتر أفضل من الشرق الأوسط، ففي قلب تجربتين مصغرتين تتربع عليهما الإمارات وإسرائيل، وهما دولتان ذكيتان يفترض أنهما تجلسان تحت مظلة الحماية الأمريكية، لكنهما حريصتان على تشكيل تحالفاتهما الخاصة في هذا العالم.
ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي وراء قيامهم بذلك هو انسحاب الولايات المتحدة البطيء من منطقة الشرق الأوسط منذ عقود، كما أنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الصين وروسيا التان تتنافسا على السيطرة على المنطقة بصورة واضحة.
ويمكن التعبير عن ذلك الانسحاب الأمريكي من خشبة المسرح الدولي بطرق مختلفة: ففي عهد أوباما كان الانسحاب، كرد فعل على كارثة العراق، وفي عهد ترامب كان في الشعار أمريكا أولا وفي عهد بايدن كان في المقولة “أمريكا عادت” أو عادت إلى عصر القواعد والاستقرار العالمي. لكن كل ذلك يشير إلى حقيقة مركزية وهي: أن المظلة العسكرية الأمريكية باقية، لكن المظلة السياسية قد تآكلت، فلا توجد رؤية أمريكية لبقية دول العالم، أو إذا كانت هناك رؤية، فمن المؤكد أنه لا يوجد جمهور أمريكي على استعداد للدفاع عنها.
ويمكنك رؤية ذلك في العلاقات المزدهرة بين الإمارات وإسرائيل في الشرق الأوسط، وهما دولتان اتجهتا نحو التطبيع بسبب الشكوك حول ما تنوي واشنطن فعله بشأن إيران. إن الجدل المستمر حول الاتفاق النووي الإيراني، وشعورهم بأن أسلحة طهران تشكل تهديدا وجوديا عليهما، جعل الدول في جميع أنحاء الشرق الأوسط تشعر بأن الديمقراطية الأمريكية هي عبء عليهم أكثر من كونها ميزة لهم، ومع تغييرات زلزالية في السياسة الأمريكية كل بضع سنوات، وفي ظل حالة عدم اليقين، فمن الأفضل البحث عن حلفاء في القضايا الأصغر، فإذا فشل جدار الحماية الأمريكية، فربما ينجح نسيج العنكبوت المكون من التحالفات المتشابكة في توفير شيء من الحماية.
وسيأتي الاختبار الحقيقي للشراكة المصغرة عندما تواجه تلك التحالفات المتداخلة، بل وحتى المتنافسة، تهديدا على غرار التهديدات القديمة على سبيل المثال، حرب مثل أوكرانيا، حيث تقدم السويد وفنلندا مثالا جيدا على كيفية نجاح الشراكة المصغرة، حتى لحظة فشلها.
وسعت فنلندا والسويد على مدى عقود إلى تحقيق التوازن بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، وعملا مع كليهما لكنهما كانتا حذرتين من تفضيل أي جانب من كلا الجانبين، وكان ذلك صحيحا بشكل خاص مع فنلندا، وهي دولة تشترك في حدود تزيد عن 1000 كيلومتر مع جارتها الأكبر منها بكثير (روسيا) وبالنسبة لكلا البلدين، ساد الحياد لفترة عقود من الزمن، حيث كانت السويد غنية ومزدهرة بينما قادت فنلندا العالم في الحكومة الرقمية.
إلى أن وقع غزو أوكرانيا، وفجأة أصبح من الواضح أنه لا البراعة التكنولوجية ولا السياسات الديمقراطية الاجتماعية يمكن أن تقف في وجه الغزو الروسي، ما يحتاجه كلا البلدين هو مظلة نووية، وفي غضون أسابيع أعرب كلا البلدين عن رغبتهما في الانضمام إلى حلف الناتو.
هذا إذن هو الجانب المبهم والغامض في الشراكة المصغرة، فتلك الشراكات تسمح بعلاقات ديناميكية وظرفية، وربما تشابه القوة الدبلوماسية التي تعكسها العلاقات الثنائية. لكن مثل هذه الشراكات غير الرسمية لم تُختبر بعد ضد تهديد كبير، مثل التصعيد الإقليمي من قبل الصين حول تايوان، وإذا وقع ذلك، فقد تكون المواثيق العسكرية الملزمة قانونا أكثر أهمية من التعاون الطوعي.
يقوم فيصل اليافعي حاليا بتأليف كتاب عن الشرق الأوسط وهو معلق دائم الظهور على شبكات الأخبار التلفزيونية الدولية، وقد عمل في منافذ إخبارية مثل الجارديان وبي بي سي، وقدم تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.
تويتر: @FaisalAlYafai